كورونا … من زاوية أخرى

لست في صدد الحديث عن كورونا الفيروس الغامض ، ولا كورونا الوباء القاتل ، ولا كورونا العلاج الناجع ، ولا كورونا اللقاح الواعد ، بل عن كورونا الجهاز الكاشف ، قد يبدو غريباً هذا الطرح وذاك المسمى ، نعم غريب لكنه قريب ودقيق ومخيف !
كشف كورونا عيوب قوم و أبرز ايجابيات آخرين ، سواءً على المستوى الشخصي او المستوى الدولي ، منذ بدأت هذه الأزمة إشاعة حتى أنتهت مشاعة ، مرت بمراحل متتابعة تجلت على الفرد والجماعة والدولة والعالم ، ومازالت حتى هذه اللحظة ، بايجابياتها وسلبياتها .
على الصعيد الفردي ، ومن خلال تجربتي الشخصية ، مررنا بحالة من اللامبالاة في البداية ، حتى حل عيد الربيع الصيني ، حينها بدأت الوتيرة بالتسارع بشكل مفاجئ ، فُرضت التشديدات و الإجراءات ، ضقنا ذرعاً ، فاختار أناسُ منا السفر ومغادرة البلاد حتى حين ، فغادر العشرات ، فجأة دخلنا مرحلة إغلاق المساكن و المجمعات ، إنه الحجر الصحي الذاتي الاحترازي الإجباري ، في هذه المرحلة اكتسبنا مزيداً من الوقت ، فلا خروج ولا دخول ، وقد ربما العزلة اخرجت ما هو كامن في نفوسنا ، فنرى كورونا كشف المادح الكاذب الذي يقول مالا يفعل ، وكشف المسؤول الذي ترك رعيته حيص بيص ، كشف الطبيب الناجح الذي ينشر الوعي بعلمه ، والكاتب البارع الذي أبهرنا بقلمه ، والرسام الخارق الذي عبر عنا بريشته ، والفنان الذي يعزف وقاية و يغني علاجاً ، كشف لنا من يتكلم دون عمل ، ومن يعمل دون جلبة ، ومن يعمل ليراه الآخرون ، و من ينقد عمل الآخرين لعجزه ، ومن بين هذا وذاك يتابع بصمت وله مآرب أخرى .
كشف لنا كورونا مدى الترابط الاجتماعي ، أتحدث عن نفسي ، فقد كنت مسؤولاً عن 18 شخصاً في سكني الجامعي الذي يقع في أطراف المدينة ولا يخضع لمراقبة مكتب الطلبة الأجانب بشكل مباشر ، فكنتُ المندوب هناك لثلاث سنوات ، شعرتُ في هذه الفترة إننا بحق أسرة واحدة ، تعيش نفس المأساة ، نسأل عن بعضنا كل يوم ، من أكل و من بحاجة للخروج ، ومن ينقصه شي ما ، كان هناك الأطفال والرضع،  الرجال والنساء ، مزوجين وعُزاباً ، نتبادل الطعام ونتشارك الشراب ، كنا نفرح بكل إعلان جديد في قروبنا البسيط ، وخاصة عندما أذهب لأستلام الكمامات المجانية أسبوعيا ، وأوزعها كأنها هدايا بابا نويل في ليلة عيد الميلاد ، حضينا بأوقاتِ سعيدة تعرفنا فيها على بعضنا البعض بصورة غير متوقعة ، نعم انه كورونا ، الذي يميز الخبيث من الطيب .
أما على المستوى الدولي ، فحدث ولا حرج ، ولات حين مناص ، لن أتحدث هنا عن الصين ، فقد ربحت الجولة بأستراتيجية القوة الصارمة وأنتهى الأمر ، ولكم أنا فخور اني عايشت كورونا فيها ، ولا أستثني ، لكني سأتحدث عن سباق الأمم في مواكبة الأزمة العالمية ، كان هناك مرحلتان: مرحلة التفشي الصيني ومرحلة التفشي العالمي ، ففي المرحلة الأولى كان انتشار الشائعات أسرع من انتشار الفيروسات ، عاش العالم الذعر وهو بعيد عن الصين ، أنكشفت عورات نفوس الشعوب اذا جاز لنا التعبير ، فنرى لوم الصينيين بين الامريكيين ، والعنصرية ضد الصينيين بين الأوروبيين ، والشماتة من الصينيين بين العرب المسلمين ، ليس كلهم ، فالتعميم لغة الجاهلين ، لكنها شريحة طغت على المشهد لأن صوتها كان صاخباً وغيرهم للأسف فضل ان يكون من الصامتين ، فتارة إتهام الصين بالفشل في الاحتواء وتارة وصم الفيروس بانه صيني العرق وتارة الاشارة إليه أنه عقابُ الهي يصيب به المعتدين ، فجأة تدخل المرحلة الثانية ، إنحسار في الصين وإنتشار في العالم ، تهاوت الدعاوى والفريات الواحدة تلو الأخرى ، بل وتكشفت حقائق البلدان ، بين تعتيم إيراني وارتباك عربي ، بين ديموقراطية غير حازمة في ايطاليا و استعداد غير جِدّي في اميركا ، لن تجتمع التضحية و الصرامة في دولة غير الصين ، الحسم في الأوقات الصعبة لن يكون سهلاً كما تخيلناه ، انه كورونا ، كشف كل شيء ، نعم كل شيء ولا عزاء .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى